التسويف

التسويف
المؤلف Houdablog
تاريخ النشر
آخر تحديث


 التسويف  

في كثير من الأحيان، نضع في جدولنا اليومي أو الأسبوعي مجموعة من الخطط والمهام التي نرغب في إنجازها وفق خطة زمنية محددة. لكن مع مرور الوقت، نواجه تحديًا آخر، وهو فقدان الرغبة في تنفيذ تلك المهام. هنا يتدخل العقل، محاولًا تجنّب الشعور بالذنب أو الألم الناتج عن تأجيل المهمة، فيبدأ بصرف انتباهنا نحو أفكار ممتعة أو أنشطة بديلة تمنحنا شعورًا مؤقتًا بالراحة. وقد يلجأ أيضًا إلى اختلاق مبررات مقنعة لتأجيل المهمة، مما يقودنا إلى ما يُعرف بـ "التسويف".

التسويف غالبًا لا يرتبط بالمهام السهلة أو الممتعة، بل يظهر في مواجهة المهام الصعبة، أو المملة، أو تلك التي تتطلب مجهودًا ذهنيًا أكبر. وفي محاولة لتجنّب هذه المهام، نمنح الأولوية لأعمال أقل أهمية، مما يؤثر على إنتاجيتنا.

إذا تأملنا في الأمر، نجد أن هناك نوعين من الأشخاص: النوع الأول يركّز على المهام الجوهرية ويمنحها الأولوية في حياته، بينما النوع الآخر ينشغل بتفاصيل ثانوية على حساب أولوياته الأساسية، ويقع في فخ التأجيل والتسويف بشكل مستمر. هذا الأخير إذا تمكّن من مواجهة التسويف والتغلب عليه، فإنه سيكون قادرًا على تحقيق تطور كبير في حياته المهنية والعملية.

التوازن بين أهداف المستقبل وتحفيز الحاضر: استراتيجية فعالة لمواجهة التسويف

منهجية التعامل مع التسويف تعتمد على مبدأ التوازن بين الحاضر والمستقبل.
فكما نحدد أهدافًا بعيدة المدى ومكافآت مستقبلية، يجب كذلك أن نحدد أهدافًا فورية ومكافآت قريبة.
على سبيل المثال، إذا كان هدفي على المدى البعيد هو فقدان الوزن والحصول على جسم رشيق يمنحني ثقة أكبر بنفسي، فإن عليَّ اليوم أن أبدأ بخطوة واقعية مثل التسجيل في نادٍ رياضي، ممارسة التمارين، المشي، أو اتباع نظام غذائي صحي.
أما المكافأة الفورية، فقد تكون مشاهدة برنامج أحبه بعد التمرين، أو تناول وجبة مفضلة ضمن حدود النظام.

الفكرة هي أن تُقرن كل خطوة في الحاضر بهدف واضح ومكافأة تحفزك، لتخلق توازنًا بين طموحات المستقبل وواقع اليوم.
ضع أهدافًا كبيرة وخططًا بعيدة المدى كما تشاء، لكن تذكّر أن التنفيذ لا يحدث إلا في اللحظة الراهنة.
ما تملكه حقًا هو هذا اليوم، هذه الساعة.
لذا، اجعل لكل يوم خطة، ولكل إنجاز مكافأة.
إذا خلا يومك من الأهداف والمكافآت، فهو غالبًا يوم فارغ من النشاط والإنجاز، أي خاضع للتسويف والتأجيل.

إنهاء المهام المؤجلة: دليلك العملي للتغلب على التسويف

تحقيق الإنجاز بخطوات صغيرة: قوة الأهداف المتناهية في الصغر

الهدف الواضح يقلل من التشتت ويزيد من احتمالية الإنجاز.
إذا كنت ترغب في البدء بتنفيذ مهمة كنت تؤجلها، فلا بد أن تحولها إلى هدف محدد وواضح، وتحدد الخطوات المطلوبة لتنفيذه.
اسأل نفسك: ما هي الخطوات الأولى التي تساعدني على بدء هذه المهمة؟
ابدأ بتحديد الوقت والمكان المناسبين للتفكير فيها، ودوّن مجموعة من الأفكار التي تساعدك على اختيار الموضوعات أو المهام الأكثر أهمية.

هذه الطريقة فعّالة جدًا، لأن العقل بطبيعته يتعامل بصعوبة مع الأهداف العامة أو المبهمة التي تفتقر إلى منهجية واضحة، مما يؤدي إلى فقدان التركيز والشعور بالضغط النفسي، وبالتالي الميل للتأجيل.
أما عند تقسيم الهدف إلى خطوات صغيرة، وتحويل كل خطوة إلى هدف بحد ذاته، فإنك تسهّل على دماغك عملية المعالجة وتزيد من قدرتك على الإنجاز بسرعة ووضوح.

وإذا كان لديك هدف كبير ومعقّد، فهناك خياران لمواجهته:

إما أن ترفع من قدراتك وإمكانياتك لتتناسب مع حجم وصعوبة الهدف.

أو أن تُجزّئ الهدف الكبير إلى سلسلة من أهداف صغيرة، تتوافق مع قدراتك الحالية.

الطريقة الثانية غالبًا أكثر فعالية وسهولة في التطبيق، لأنها تعتمد على الوضوح، التدرج، وتقليل العبء الذهني، كما تمنحك شعورًا متكررًا بالإنجاز مع كل خطوة، مما يعزز دافعيتك للاستمرار.

التوازن بين صعوبة المهمة وقدراتك: سر التخلص من التسويف

متى يتولد لديك التوتر أو الضغط النفسي من تنفيذ مهمة معينة؟
عادةً يحدث ذلك عندما تكون المهمة تمثل تحديًا أكبر من قدراتك الحالية أو مهاراتك، مما يجعلك تؤجلها يومًا بعد يوم. وفي المقابل، قد تفقد الحماس أيضًا إذا كانت المهمة سهلة جدًا، روتينية، ولا تحتوي على أي عنصر من عناصر التحدي.

في كلتا الحالتين، النتيجة واحدة: عدم تنفيذ المهمة.
فإما أن تكون المهمة صعبة جدًا فتشعرك بالقلق والخوف من الفشل، أو تكون سهلة ومملة لدرجة لا تحفزك على العمل.

لكن هناك حل فعّال يكمن في تحقيق التوازن بين التحدي والمهارة.
فإذا كنت متحمسًا لمهمة معينة – حتى وإن كانت صعبة أو مملة – بإمكانك تعديل طريقة التعامل معها لتتناسب مع قدراتك:

إذا كانت المهمة صعبة: خفّف مستوى التحدي قليلاً بما يتناسب مع مهاراتك الحالية، مثلاً عبر تقسيم المهمة إلى أجزاء صغيرة، أو تمديد الوقت المخصص لها.

وإذا كانت سهلة جدًا: ارفع مستوى التحدي قليلًا لتتناسب مع إمكانياتك، كأن تحاول إنجازها في وقت أقصر من المعتاد، أو تضيف عنصرًا جديدًا يتطلب تركيزًا أعلى.

هذا التوازن يحافظ على شعورك بالتحفيز والإنجاز في نفس الوقت.

كما يمكنك استخدام وسائل مساعدة لتحقيق هذا التوازن، مثل:

تفويض جزء من العمل لشخص آخر.

استخدام أدوات أو تطبيقات تسرّع أو تسهّل التنفيذ.

تعديل مدة العمل حسب الحاجة (تقليل أو زيادة) بما يناسب مستوى صعوبته.

في النهاية، المفتاح في التعامل مع التسويف هو فهم العلاقة بين مستوى التحدي، المهارات الشخصية، والموارد المتاحة لحظة التنفيذ.

أولوياتك تصنع إنجازك: افعل ما لا يمكنك تجاهله

هذه الخطوة تُعلّمك فن "تسويف غير المهم" لصالح إنجاز ما هو أهم.
وأحيانًا، حتى المهام المهمة قد تحتاج لتأجيل مؤقت، عندما يكون هناك ما هو أهم منها. وهنا تظهر الحاجة إلى التمييز بوضوح بين ثلاثة أنواع من المهام:

العمل غير المهم: لا يساهم في تحقيق هدفك بأي شكل.

العمل المهم: يساهم بشكل مباشر في الوصول إلى هدفك.

العمل الأهم: لا يمكنك الوصول لهدفك بدونه، فهو أساسي وحاسم.

أهمية الأعمال نسبية، وتختلف من شخص لآخر، ومن ظرف لآخر. كثيرًا ما ننشغل بأعمال تبدو مهمة، لكنها ليست أولوية فعلية، بل نقوم بها لأنها سهلة أو ممتعة، وتمنحنا شعورًا سريعًا بالإنجاز. لكن الإنجاز الحقيقي غالبًا يكون في تنفيذ المهمة الأصعب، لأنها الأكثر تأثيرًا في تقدمك نحو هدفك سواء على المدى القصير أو الطويل.

وعندما تُنجز هذه المهمة الأصعب، فإن شعورك بالإنجاز سيكون أقوى بكثير، وستزداد ثقتك بنفسك، ويترسخ إيمانك بقدرتك على الإنجاز. كما أن المهام الأخرى ستبدو أسهل، لأنك أنجزت أصعب ما في قائمتك.

فكيف تحدد ما يجب أن تعمل عليه الآن؟
ابدأ بطرح هذا السؤال:
ما هي أهم 3 مهام، إن لم أنجزها، لن أتمكن من تحقيق هدفي؟

ثم اسأل نفسك:

هل المهارات هي العائق؟

أم أن المشكلة في قناعاتي؟

أم أنني بحاجة لمزيد من المعرفة أو الشهادات؟

كل هذه الأسئلة تساعدك على تحديد أولوياتك بدقة، وتوجيه طاقتك نحو ما يُحدث الفرق فعلاً في مسارك.

كيف تتغلب على التسويف: توازن العقل والمشاعر لتحقيق الإنجاز


العلاقة بين الأفكار والمشاعر علاقة تبادلية؛ فالأفكار تُولد مشاعر معينة، وهذه المشاعر بدورها تعزز تلك الأفكار وتغذيها. ومع تزايد الشعور، يتحول في النهاية إلى سلوك. ومن أبرز أسباب التسويف في تنفيذ المهام هو تلك الأفكار التي تراودنا قبل الشروع في العمل، فإن كانت سلبية، فإنها تُنتج شعورًا بالتوتر أو الضغط، مما يؤدي إلى التأجيل أو التهرب.

الحل يكمن في معرفة كيفية التحكم في المشاعر قبل أن تتحكم هي فيك، ومحاولة أخذ زمام المبادرة بخطوة واحدة على الأقل. وهنا تبرز فعالية "قاعدة الخمس ثواني"، التي تعتمد على التدخل السريع قبل أن يستحوذ عليك العقل العاطفي.

الدماغ يحتوي على جزأين أساسيين: الجزء الأمامي، أو ما يُعرف بالقشرة الجبهية، وهو المسؤول عن التنظيم والتخطيط والتحليل وضبط المشاعر، والجزء الثاني هو الجهاز الحوفي، وهو المسؤول عن الاستجابات العاطفية والسلوكية السريعة، كالشعور بالخوف أو تجنب الألم. هذا الجهاز يشبه الطفل في طريقة تعامله مع الأمور، فهو يفضل الراحة والمتعة، ويتجنب أي شيء يسبب التوتر أو الجهد.

عندما يكون الجهاز الحوفي هو المتحكم الرئيسي، فإن سلوكياتنا تصبح موجهة نحو الراحة وتجنب الألم، ما يؤدي إلى التسويف. لذلك، الهدف هو تحقيق توازن مؤقت يسمح للقشرة الجبهية بأن تستعيد السيطرة قبل البدء في التنفيذ.

أحد الطرق المفيدة لتدريب العقل على "التنفيذ قبل التفكير" هو تعريض النفس لتجربة مثل الاستحمام بالماء البارد. فرغم أنه غير مريح في البداية، إلا أن الجسم والجهاز العصبي يبدآن بالتكيف بعد لحظات. هذه التجربة تشبه تمامًا مواجهة مهمة مؤجلة. بمرور الوقت، يتحسن الجهاز المناعي، وتزداد مستويات الدوبامين في الدماغ، وهو ما يعزز الشعور بالتحفيز.

هذا النوع من التمرين العقلي يساعد على تدريب الدماغ لتوقّع المكافأة الناتجة عن الإنجاز، بدلاً من الوقوع في فخ تجنب الألم بالتسويف. وإذا تمكنت من كسر هذه الحلقة، فستصبح أكثر إنتاجية، وتتقدم نحو أهدافك بخطى أسرع وثقة أكبر.


التباين العقلي: أداة فعّالة للتغلب على التسويف وتعزيز الدافع

من أنجح الأساليب التي تساعدك على التغلب على التسويف هي تقنية "التباين العقلي"، وهي طريقة فعالة تعزز دافعك نحو تنفيذ المهام المؤجلة وتدعم ما يُعرف بنية التنفيذ. تقوم هذه التقنية على مبدأ المقارنة بين خيارين أو أكثر، يكون أحدهما أكثر فائدة ومكافأة من الآخر. الهدف منها هو زيادة وعيك بالفرق بين الحالتين، مما يدفعك لاختيار الخيار الذي يمنحك مكافآت أكبر وفرصًا أفضل.
تبدأ هذه العملية بتخيل مستقبلك المثالي بشكل إيجابي، مثل نجاحك في امتحان، إنجاز مشروع، أو تحقيق هدف مهم. بعد ذلك، تنتقل لتصور واقعك الحالي وما يحتويه من تحديات أو معوّقات تمنعك من الوصول لهذا المستقبل الذي تطمح إليه. هذا التباين بين الصورة المستقبلية والحالية يخلق نوعًا من التوتر التحفيزي، حيث يبدأ عقلك – المعتاد على البحث عن الأفضل – في تفضيل الخيار الذي يقربك من النجاح.
عندما ترى المكافآت المحتملة بوضوح، يزداد شعورك بالحافز، ويصبح من الأسهل عليك تنفيذ خطوات – حتى لو بسيطة – تساعدك على تجاوز العوائق. فبمجرد أن تدرك العائد الإيجابي من العمل، وتقارن ذلك بثمن التأجيل، تتغير نظرتك للمهام التي كنت تؤجلها. تصبح هذه المهام مرتبطة بتحقيق أهدافك، لا عبئًا تتجنبه.

وبعد الانتهاء من تخيل المستقبل المشرق، تعود إلى الحاضر لتواجه التحديات بوعي ووضوح، وهنا يأتي دور التنفيذ الفعلي. عندما تجمع بين الرغبة القوية في المكافأة، وإدراك التحدي القائم، تكون لديك العزيمة الكافية لتبدأ، والثقة الكافية لتكمل.

في الختام، تذكّر أن كل إنجاز كبير بدأ بخطوة صغيرة، وأن التغلب على التسويف ليس مستحيلاً، بل يحتاج فقط إلى وعي، واستراتيجية، ورغبة حقيقية في التغيير. اختر مستقبلك، وابدأ الآن، فكل لحظة تؤجل فيها، تؤجل معها نجاحك.



تعليقات

عدد التعليقات : 0